بقلم : ادهم غرايبة
30-11-2014 12:06 PM
بات مؤكدا اليوم أن الإستحضار المكثف و الحضور الطاغي لسيرة الشهيد وصفي التل و استدعاءه بشكل طارئ هي إحدى تعبيرات الإحتجاج السياسي و الوطني على حال الدولة الاردنية و مآلاتها التي لا تسر أحدا .
أكاد أجزم أن سيرة الشهيد القائد وصفي التل لم تستحضر في ضمائر الأردنيين في أعقاب إستشهاده مثلما أستحضرت في الأعوام القليلة الماضية ,و الغريب أن ' الدولة ' التي يفترض بها تكريم قادتها من الشرفاء تتخذ من التهميش منهجا لغايات تهشيم الروح الوطنية و إبقاء الوطن بلا وطنيين , و قد تجلى ذلك بوضوح في تجاهل التلفزيون الرسمي – رحمه الله - لذكرى إغتيال الشهيد الحي في ضمائر الأردنيين !
على قاعدة ' في الليلة الظلماء يفقتد البدر ' يستعاد وصفي التل ' الانسان و المشروع معا ' في ظل ' الافشال ' الذي تواجهه الدولة اليوم في كل القطاعات و على رأسها القطاع المعيشي و الاضعاف المتعمد للعصبية الوطنية الاردنية مقابل هوية سياسية مبهمة و فضفاضة تحوي هويات مناطقية و عشائرية تأسرالناس ضمن ' مجاميع ' اجتماعية مناقضة للهوية الوطنية, كل ذلك , تحديدا , يحرض نسبة كبيرة من الشباب بالذات على استعادة ذكرى الشهيد .
وصفي التل هو الذي اسس البنى التحتية للدولة و ' هندس ' مسارات الدولة الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية التي كان من المؤكد ان حالها سيكون افضل بكثير لو قدر له تنفيذ تصوراته, او لنقل لو اكمل من جاء من بعده العمل بذات الروح و الطهر . فقد انهمكت حكوماته الثلاث بالنهوض بكافة القطاعات فتم تأسيس الجامعة الاردنية و الاذاعة و التلفزيون و كهربة الريف و مشاريع جر المياه و تحديث المواصلات و تقديم الدعم الحقيقي للقطاع الزراعي . علينا دوما , بالمناسبة , الإفلات من تخيل أن حال مؤسساتنا العامة انذاك بالوضع البائس الذي آلت اليه الان في عهد اعداء
التل و مشروعه الوطني !
وصفي التل هو الذي صعد بابناء المناطق المهمشة و الطبقة الاجتماعية المتوسطة لمستويات صنع القرار من الضفتين و زج بدم جديد بعروق الدولة مستندا الى معايير الاهلية و الانتماء الوطني .
الإطار ' الإقليمي ' الذي وضعت به صورة الشهيد وصفي التل لا تليق به . و الصورة و صاحبها أكبر من الإطار الذي فصل له لغايات غير بريئة هدفها اغتياله يوميا ه و رؤيته الوطنية . و تهدف لترويج كل اردني مؤمن بنهج الشهيد الوطني على انه اقليمي و كاره لأشقاءه من الفلسطينيين .
وصفي كان منحازا للمقاومة لا بل أنه كان أحد أكبر قادتها , و أحد المقاتلين الشرسين على أرض فلسطين ممن رفضوا التسليم و التقسيم, لكنه - في ذات الوقت - كان منحازا لمشروع الدولة المقاومة , لا لفوضى التنظيمات . و ها نحن ندفع اليوم ثمن العقلانية التي إغتيلت معه أيضا .
في حكومات وصفي الثلاث كان عدد الوزراء من أصول فلسطينية أكثر من عددهم من 'الشرق أردنيين ' , فكيف يستقيم أن يكون إقليميا أردنيا على هذا الحال ؟! و هل من يتمسك بحق الفلسطينيين بأرضهم يستحق أن يطلق عليه وصف ' اقليمي ' ؟!
من دواعي الفرح حقا أن إستحضار إسم وصفي التل و إعادته للتداول السياسي لا يتم من الشباب الوطني' الاردني ' فحسب , بل يشاركهم فيه نخبة من الشباب الاردنيين من ' اصول فلسطينية ' . حتى لو كان ذلك على ' استحياء ' - غالبا - متخلصين من اوهام متوارثه تستند غالبا لإعتبارات نفسية لا على حقائق راسخة حول سيرة الشهيد المغيبة بفعل مجموعات تعكف على القضاء كليا على المشروع التحرري المشترك للشعبين التوأمين و تسعى لمزيد من التفرقة و التفتيت و تغييب العقل .
إستعادة سيرة الشهيد مهمة و ضرورية , لكن الأهم منها التمسك بمشروع بناء الدولة الوطنية الإجتماعية التي يسودها دستور حضاري يجسد سيادة الشعب و يضمن حقوق و اجبات كل مواطن فيها و يعطي كرامة المواطنيين و هيبة الدولة و مصالحها الاولوية المطلقة . من يستذكرون سيرة الشهيد يستطيعون ان يسدون له معروفا و ان يردوا اليه بعضا من فضائلة بابسط الطرق بأن يكونوا ايجابيين بتصرفاتهم اليومية كأن يعفونا من ' غزواتهم ' في الجامعات لأسباب تافهة .
وصفي التل بحر شهامة و نبع عفة و منجم اخلاص و بطل حقيقي , لكن لا يجب ان تقف البطولة عنده ان كنا وطنيين حقيقيين . من المعيب و المحرج لوصفي التل ذاته ان نحيله الى ' الحسين ' فيما تتحول الاردن الى كربلاء يحلو فيها لطم الخدود و ضرب الصدور على ذكراه دون عمل جاد ينتصر لحقنا في حياة كريمة في وطن محصن كما كان جوهر المشروع الوطني للشهيد .
من لديهم ' ثارات ' – من الطرفين - تعنيهم وحدهم , ليتقوا الله باسم وصفي التل فهو ليس ' هتلر الاردني ' . وصفي ابن فلسطين مثلما هو ابن الاردن, و مشروعه الوطني الاردني كان مقدمة لمشروعه القومي العربي المتمثل بوحدة سوريا الكبرى .
بعد كل هذه الأعوام من ' التغييب ' لا الغياب , يحضر ' التل ' في وجدان الأردنيين كرمز وطني تتلخص فيه امالهم و اوجاعهم بعد ان انتكست مسيرة بناء بلدهم و تم السطو على المشاريع الوطنية التي أسس لها الشهيد بدون ' كومشين ' لجيبه الخاص كما جرت العادة و اصبح عرفا بين الرؤوساء الذين جاءوا من بعده .
يا الهي , وصفي التل في جنان خلده ' باق و يتمدد ' في وعينا الوطني الذي يمر بمخاض ولادة عسيرة فيما سواه من رؤوساء الحكومات ' نائم و يتجبد ' !