الحوش الكبير
بقلم : د عودة ابو درويش
06-08-2015 01:18 PM الحوش الذي كنّا نسكن فيه كبير , كبير جدا , حتّى اننّا , انا والصغار من اخوتي واولاد عمومتي , كنّا نتعب ان حاولنا الركض من اولّه لآخره , ونختبأ من امهاتنا في احد اركانه , ان اردن منّا ان نقضي لهن حاجة من عند الجيران او السوق, بوابة الحوش كبيرة ايضا , وهي عبارة عن بوابتين , او باب كبير وباب صغير ,واحد لدخول الناس , والآخر لدخول الدواب , الجمال والخيول , والحمير والغنم , والباب الصغير , جزء من الباب الكبير لا ينفصل عنه , علية مطرقتان واحدة كبيرة والاخرى صغيرة , فاذا طرق الباب بالصغيرة , يفهم اهل الحوش ان بالباب امرأة , والكبيرة أنّ بالباب رجل , وعلى جوانب الحوش غرف كثيرة , كبيرة وصغيرة مبنية من الطين والتبن المعجونان بالماء , وتوضع في قوالب من الخشب حتّى تجف , ثم تبنى منها الغرف , وهي بعدد زوجات الرجال المتزوجين من اهل الدار وآبائهم وامهاتهم , ولكن واحدة من الغرف كبيرة جدا , تسمّى الديوان و يجتمع فيها اهل الدار اغلب الاحيان , ويأكلون فيها احيانا اخرى . غرفة أمي كانت ملاصقة لغرفة جدّتي وتطل على الحوش الترابي , لها باب خشبي , يفتح بمفتاح لا يمكن ان نستطيع الاحتفاظ به في جيوب بناطلنا الحديثة , مربعة الشكل , على واجهتها التي تقابل الداخل الى الغرفة, مرآة كبيرة كنت استطيع ان أرى فيها كل تفاصيل جسمي ببساطة , عليها زخارف ورسومات يدوية , قالوا لي انّهم نقلوها من الشام بواسطة القطار ومعها ثلاث مرايا اخرى , تحت المرآة مصطبة تستمر من ركن الغرفة الى ركنها الآخر , وعلى المصطبة صندوق خشبي عليه زخارف ولكنها ملّونة , داخل الصندوق حاجيات تخص امي , وللغرفة شباكان خشبيان , عليهما حماية حديدية , لا ادري لماذا مع ان الباب كان يفتح بسهولة , على الشبّاك مصطبة عرضها كبير , بحيث تتسع لي ولآخرين معي , وكانت هذه المصطبة المكان المفضّل لي لمراقبة الاحداث التي تحدث في حوشنا الكبير , حيث اني استطيع ان ارى الزائر القادم الينا من دون ميعاد من البادية , والذي عادة يستضيفه ابي لمدة غير معلومة , ولأستمع انا لاحاديثهم عن الاحوال في البادية بلهجة كنت احاول جاهدا ان افهمها , او ان اراقب اهل الحوش وهم يغدون ويجيئون لقضاء اعمالهم . . سقف غرفة امّي وسقف جميع الغرف في الحوش مبني من دوامر حديدية عليها خشب غليظ , وقصّيب , وفوق القصّيب خلطة من التبن والطين , يعطي بناء هذه الغرف من الطين , برودة في الصيف ودفأ في الشتاء , وليس للغرف نوافذ على الشوارع , فجميع شبابيكها تطل على الحوش , وذلك للتقليل من دخول الغبار الكثيف الذي تمتاز به منطقتنا , صيفا وشتاء , ويتوسط الحوش بئر ماء , عمقه قليل ولا يتجاوز بضعة امتار , تغرف منه النسوة الماء للطبخ والشرب ورشّ ارض الغرفة والحوش , وفي ركن من الحوش حظيرة للماعز, كنّا نرعى بها في الاراضي الشرقية من الفجر الى المساء, وخم للدجاج , منه نحصل على بيضات نأكلها في الصباح ,وفي الركن الآخر طابون , تخبز فيه جدّتي كل صباح خبز لا يمكن ان انسى طعمه الرائع ابدا . من مصطبة شبّاك غرفة امّي كنت أرى زوجات ابي , امّي وعمتي , وبناتهن اخواتي , وزوجة عمّي وبناته , وهنّ يجاهدن لكي يكون الحوش نظيفا و خاليا من روث الحلال ومن بقايا طعامنا , وبعد ان يكنسنه بالمكانس الكبيرة , يرشنّه بالماء , حتى تتلبد الارض ولا تنفث الغبار , وتجلس امي وعمتي , كل واحدة الى آلة خياطتها , تخيط الاثواب التي نكون نحن الصغار قد جلبناها من التجار , ثم نعيدها اليهم جاهزة مخاطة , وهذا العمل يأخذ منهن باقي الوقت الذي يمكن ان يرتحن فيه بعد اعداد الطعام للعدد الكبير من الناس الموجود في غرف الحوش , وبعد غسل الملابس يدويا , ونشرها على حبال الغسيل , واذا حلّ الغروب يعددن الفراش لنا , كي نخلد نحن الصغار الى الراحة بنوم عميق , ويبقين هنّ يخطن الملابس , ويغسلن الاواني , ويسهرن على راحتنا , من دون ان يتأففن او يتذّمرن لاحد , يعلمن تماما ان العمل الذي يقمن به لا يقدّر بثمن , و يا ليت نساء ايامنا هذه يستطعن ان يقمن به , او ببعضه , من دون ان يحمّلن ابنائهن وازواجهّن جميلة , لا ترقى الى جمائل نساء الحوش الكبير ابدا .
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع كل الاردن بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع كل الاردن
علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
|